عن التقيّة السياسية

للخوفِ وظيفتان: الأولى تلك التي تستفزّ طاقتك وتشحذ همّتك لتتخطّى مصدره، والثانية تُجمّدك مكانك وتسلبك حتى احتمالات الفرار إن لم تكن المواجهة.

Apr 11, 2024 - 18:30
 0  0
عن التقيّة السياسية

أقدّر الخوف البشريّ، وطالما خبرته وإن قال الأداء والمسار خِلاف ذلك، وأعرفُ كما كلُّ مصريّ خطورة أن تقول أيّة كلمة على غيرِ هوى السلطة، وخارج سياقِ "رسائل الـسامسونغ" لديها، لا تغريدًا خارج أسرابِ النعيق الرسميّة والمترسمنة فقط، وإنّما أيضًا أيّ حرفٍ دون المنصوصِ عليه، ولو في حدودِ المعروفِ من الحكمِ بالضرورة.

لكنّ للخوفِ وظيفتين في ظنّي: الأولى تلك التي تستفزّ طاقتك وتشحذ همّتك لتتخطّى مصدره، والثانية تُجمّدك مكانك وتسلبك حتى احتمالات الفرار إن لم تكن المواجهة.

وأخشى أنّ غالب الحاصل في أوساطِنا تلبّسته الثانية، فجمُدَ في غيرِ موضعِ الجمود وراهَن على أنّ "الحرب" ستمرُّ كما مرّ غيرها، والبقاءُ مطلقًا، وبأمانٍ خصوصًا، هو ما يضمن شيئًا في القادم ليستمرّ الوجود فتستمرّ الفكرة.

والمنطق الحاكم لهذا الاتّجاه متهالكٌ في مجمله، كما أعتقد؛ إذ إنّ افتراض الهلاكِ المطلق لمجرّد قول ما يجب، أو التصرّف في حدودِ ما تستوجبه اللحظة المزلزلة للوطن المحتلّ المغدور ولعمومِ الإنسانيّة، افتراض الهلاك هنا غير حقيقيٍّ، فالضرر راجحٌ صحيح، لكنّه ثمنٌ مفهوم (ولو مرفوضا) في سياقِ نظامِ الحكم الجاثم على صدورنا والوطن، اعتقالاً وتشويهًا واعتداءً وتكميمًا مضاعفًا وغيره، لكن هذه حدوده والسلعة أغلى إنّ صدق ادّعاؤنا أنّ الحريّة والوطن هما القصد.

كيفَ تدّعي النّضال، وكلّ ما تقوله وتفعله، مُعدٌّ سلفاً في جهازٍ ما، صياغةً دقيقة، أو حتى تصوّراً عامّاً؟

فالوجودُ هنا ليس موضع السؤال، إنّما تحمّل الضربات واستيعابها والانطلاق منها لما بعدها، وقبل ذلك كلّه: التنسيق الدائم، حِراكًا، وصياغةً، واشتباكًا، مع هذا الواقع انتهاءً لتصوّرٍ متماسكٍ عن الموقف السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ومعه نظام الحكم والاستقلال (الذي أصبح محلّ تساؤلٍ داخليّ علنيٍّ أخيرًا، ولو على استحياء). 

ثمّ من هذا الذي وضع "الوجود" كبديهيّةٍ لاستمرارِ الفكرة أصلاً؟ وأيّ وجودٍ نقصد عندما نلقي بهذه الكلمة في أوجه محدّثينا؟ وجود الأفراد؟ المجموع؟ وماذا عن "التجسّد"؟ ذلك التجلّي الماديّ للأفكار في حملتها؟ "المثقّف المشتبك" هل هذا محلّ ذكره، أم من الخجل أن نبحث هنا عن "المعارض المشتبك"؟ وإن لم يكن المعارض مشتبكًا، فكيف يكون؟ إذ كيفَ تدّعي النّضال، وكلّ ما تقوله وتفعله (بما في ذلك قاموس مصطلحاتك ذاته) معدٌّ سلفًا في جهازٍ ما، صياغةً دقيقة، أو حتى تصوّرًا عامًّا؟ ولو أنّ هذا مقبولٌ عند البعض (ولستُ منهم) حين الاتفاق في المسار أو الأهداف العامة، فكيف حين تختلف المسارات أو الأهداف (والأصلُ عندي أنّها مختلفة، إن لم تكن متناقضة)؟ 

لم ينتهِ "الحسين" رغم قتلهِ مغدورًا من دعاته كما أعدائه، ورغم خسارته تلك المعركة التي نذكرها (لا أقصدُ صورة الحسين التي ابتذلها الكثيرون، أو حتى اختطفوها لتقتيل خصومٍ لهم، إنّما الحسينِ الذي خرج للحقّ مجرّدًا وصعد به كما يليق)، لم ينتهِ رمزًا، ولا حكايةً، رغم الخسارة الفادحة التي نزلت به، وبمن معه، بحسابِ أهل اللحظة.

والحفاظ على كلّ فردٍ أصلٌ لا لبس فيه، وحمايته مهمّة لا يجب التفريط فيها، لكنّ النقاش هنا حول ابتلاع هذا الحفاظ لما وراءه من مقاصد بدواعٍ تشبه (عندي) "التقيّة".

إنّما التقية لحفظ "الفكرة" لا صاحبها، أو "لحفظ الإيمان لا المؤمن" بتعبير علي شريعتي، والحفاظ على الوجود لا يجب أن يُختطف لصالح وجود الأفراد، بل المجموع/ الباقي رغم تساقط بعض أفراده، وقبلهما الفكرة التي لن يضيرها ما قد يلحق بحملتها، مهما بلغت.

ما هو رد فعلك؟

like

dislike

love

funny

angry

sad

wow